في رحاب الفقه المعاصر : قضايا معاصرة في ميزان المقاصد والقواعد | قطب الريسوني
طالعةُ الكتابِ
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيّئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلَّ له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أما بعد:
فهذه إضمامةٌ من البحوثِ ضننتُ بها على الإهمال، وحرصتُ على زفِّها إلى عالم النور، موطَّأَة الأكنافِ، مجلوَّة المعالم، لعلَّ الله تعالى ييسِّر بها نفعًا لقرَّاء الفقه، وبصيرةً لأهل النَّوازل، في زمنٍ غمّ فيه على النَّاس، وعزّت بوصلة الهداية، وصار التهافتُ على نفاقِ الذّكر صناعةً ودأبًا، وإن كان من ورائه شذوذٌ، وإغرابٌ، وزورٌ من القول!
وقد جرّني إلى تحرير هذه البحوث استكتابٌ علميٌّ أو مناسبةٌ أكاديميّةٌ، وكانت الدَّواعي متوافرةً لتحكيك النَّظرِ في مناطاتها، واستفراغ الوسع في تأصيلها، ووزنها -في مراحلَ التَّصور والتَّكييف والتَّقعيد- بميزان مقاصد الشّرع، وهو ميزانٌ لا يحيفُ إذا كان صاحبه على بصرٍ بأسرار الصِّناعة، وجلدٍ على تتبِّع الموارد، وحذرٍ من التعجّل؛ بل إنه ليس للنَّوازل -إذا استحرَّت وتيرتها- إلا حذّاق المقاصد، فَهُمْ أدرى بما يجوز قربانه من المصالح، وتحاميه من المفاسد، وأقعدُ بفقه الموازنة والتّغليب.
أما البحث الأول من هذه الإضمامة فوسمته بعنوان: (بيع الشّقق على الخارطة الهندسيّة: تكييفه، وضوابطه، وأحكامه)، وهو تأصيلٌ لضربٍ من العقود المتراخية عمَّت به البلوى في بلاد المسلمين، ولجَّ الدّاعي إليه بعد تكاثر النموِّ السكانيِّ، وامتداد البساط العمرانيِّ، واستحكام الأزمات الماليَّة، واستحداث صيغٍ تمويليّةٍ جديدةٍ توفي بمصلحة البائع والمشتري معًا. وحتّى تُحسمَ مادة الغرر والغبن في هذا العقدِ المستجدِّ، ويُؤمَن النزّاع بين طرفيه، اضطلع الباحثُ بتكييفه، وبيان حكمه، وإحاطته بالضَّابطِ الشرعيِّ القمين بدرء الضَّرر مآلًا واستقبالًا.
وثاني البحوث وُسم بعنوان: (منطلقاتٌ شرعيّةٌ في صناعة الغذاء الحلال: رؤية في التَّأصيل)، وكان الغرضُ منه تصحيحَ معتقدٍ شائعٍ بين الناس، ومُفاده: أن الغذاء الحلال يصنعهُ المستثمرُ في مجال الصِّناعة الغذائيّةِ، أو ربُّ المعمل والمصنع، أو المركز المتخصّص في إصدار شهادات الحلال، والحقُّ أنَّ الفقيهَ هو الصّانع الأوَّل للغذاء الحلال باجتهاده وتأطيره الشرعيِّ، وتأهيلهِ للعاملين في حقل هذه الصِّناعة؛ ولذلك اقترح الباحثُ خمسة منطلقاتٍ للنّهوض بصناعة الغذاء الحلال، وهي:
1- مواجهة الفتاوى الشَّاذة في فقه الغذاء.
2- تفعيل الاجتهاد النوازليّ في فقه الغذاء.
3- تقصيد فقه الغذاء.
4- إبراز الفروض الكفائيّة في فقه الغذاء.
5- التَّأهيل الشرعيّ في فقه الغذاء.
وثالثُ البحوث وُسم بعنوان: (زواج المصلحة في ميزان مقاصد الشريعة)، وهذا الضَّربُ من العقود ذاع في المجتمع الأوروبيِّ، ولاذ بهِ عددٌ غير يسير من أبناء الأقليات المسلمة لإحراز الجنسيّة أو الإقامة الدَّائمة، ولما تضاربت فتاوى المعاصرين في حكمه، كان من الضَّرورة اللّازبةِ إفراده بدراسةٍ مستقلّةٍ برأسها؛ لتصويره وتكييفه، وبيان حكمِ الشرع فيه على هدي مقاصد النكاح، وتفنيد رأي القائل بجوازه بالنّظر إلى قواعدِ النظر المآليِّ.
ورابعُ البحوثِ وُسم بعنوان: (الإفتاء الفضائيُّ في ميزان المصالح والمفاسد)، وكان الحادي إليه تعجّل بعض الدُّعاة في إرسال الفتوى بمنع هذا النّمطِ الإفتائيِّ، وضرورةِ سدِّ بابهِ حسمًا لمادَّة التَّلاعب بالفتوى، وردعًا للصَّائلين عليها، وهو تعجّلٌ -على صدوره عن غيرةٍ وصلابةٍ في الدِّفاع عن الحرمات- ينافي كمال التَّحقيق؛ لأنَّ السَّبيلَ الأوثقَ وزنُ المسألة بميزان المصالح والمفاسد، وضبطُها بقواعدِ التوسّل، وانتحاءُ الجهةِ الغالبةِ في نهاية المطاف، أما إبصارُ الجهة الواحدة، وهي جهة المفاسد، فضربٌ من العمى لا يليقُ بالمجتهد في النوازل!
وخامسُ البحوث وُسم بعنوان: (قاعدة: يُتحمَّل الضَّرر الخاص لدفع الضّرر العام وتطبيقاتها المعاصرة في المجالين الطبيِّ والبيئيِّ)، والقاعدة -على ذيوعها في كتب الفقه واستئثارها باهتمام المعاصرين- لم تظفر بدراسةٍ تستجلي أبعادها المآلية في المجالين النظريِّ والتطبيقيِّ، ولاسيما أن عددًا غير ضئيل من نوازل الطبِّ والبيئة يتخرّج على القاعدة؛ بل عليها مدار التأصيل، وإليها مفزعُ الإفتاء. ومن هنا صحَّ عزم الباحث على إشباع القولِ في حمولة القاعدة، ومجالها الاجتهاديِّ، وحاكميّتها على نوازل العصر.
وليس بخافٍ، بعد هذا، أن الفقه الإسلاميَّ، ما زال إلى يوم الناس، غضًّا طريًّا، معسولَ الثِّمار في مجالي الحياة وواقع الناس، لا يلوذ بالصَّوامعِ إذا اشتدّتِ الخطوب، ولا يفرِّ من الغمرات إذا وجب النّزال، وفي شرايينه من الدِّماء المتوثِّبةِ الجديدة ما يسعفه على الكرِّ، والاقتحام، وبسط سلطانه على حاضر الأمة ومستقبلها، صبغةَ الله ومن أحسن من الله صبغةً، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين.
Reviews
There are no reviews yet.