معراج النبيّ إلى السماء
مرّ بالنبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- بعدّة أحداث أحزنته، ثمّ جاءت حِكمة الله -تعالى- بأن يُسري به إلى بيت المقدس ثمّ يُعرج به إلى السّماء؛ تخفيفاً لحزنه ومواساةً له بعد وفاة زوجته خديجة بنت خويلد -رضي الله عنها- وعمّه أبي طالب، وعاد النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- من رحلة الإسراء والمعراج بالكثير من الأخبار ثمّ نقلها إلى الصّحابة -رضي الله عنهم- وإلى أهل مكّة، ومن الأخبار التي نقلها صلاته بالأنبياء -عليهم السّلام- إماماً في المسجد الأقصى، ورؤيته لهم؛ ومنهم: موسى وعيسى وإبراهيم وإدريس وداود عليهم السّلام، ثمّ وصف المسجد الأقصى المبارك، فانقسم النّاس حينها بين مصدّق لأخبار النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- إيماناً بقدرة الله -عزّ وجلّ- على إحداث ذلك، وكانوا الصّحابة -رضي الله عنهم- من المصدّقين له، ومن النّاس من أنكر أخباره وشكّك في أقواله وهم المشّركون ومَن والاهم، ومن الأمور التي وصفها النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- خلال رحلته سدرة المنتهى؛ فما هي سدرة المنتهى، وأين تقع، وما هي أوصافها؟
سِدرة المنتهى
ورد ذكر سدرة المنتهى في القرآن الكريم مرّة واحدة؛ حيث قال الله تعالى: (وَلَقَدْ رَآَهُ نَزْلَةً أُخْرَى*عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى*عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى)،[١] والآية تدلّ على أنّ النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- التقى بجبريل -عليه السّلام- في السّماء،[٢] وفيما يأتي بيان المقصود بكلمتي سدرة والمنتهى بالتفصيل: تعريف السّدْر لغةً: هي شجرة النّبق، وهي شجرة ثمرتها طيّبة، يُنتفع بورقها، ومنها نوع آخر لا يُنتفع بورقه وثمرته عفصة.[٣] تعريف السّدْر اصطلاحاً: هي الشجرة التي حصل عندها لقاء النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- بجبريل -عليه السّلام- في رحلة المعراج،[٤] فهي شجرة النّبق وهي شجرة معروفة في الجزيرة العربيّة، وقيل إنّها اختِيرت من بين الأشجار؛ لأنّ ثمرها لذيذ ورائحتها زكيّة وظلّها ممدود، فهي تحمل صفات الإيمان الذي يحوي الإيمان والعمل والنيّة، ونُعتت السِّدرة بالمنتهى، وورد عن العلماء عدّة آراء في بيان المقصود بسدرة المنتهى وهي:[٢] قال عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- إنّ سدرة المنتهى هي التي ينتهي إليها كلّ من يصعد إليها ويهبط إليها. قال عبد الله بن عبّاس -رضي الله عنه- إنّ سدرة المنتهى ينتهي عندها علم الأنبياء عليهم السّلام، ويعجز علمهم عمّا سوى ذلك. قال كعب إنّ الأنبياء -عليهم السّلام- والملائكة يقفون عند حدّها ولا يتقدّمون لحدّ أكبر من حدّها. قال الضحّاك إنّ الأعمال تنتهي عند سدرة المنتهى وتُقبض من عندها. قال قتادة إنّ أرواح المؤمنين تنتهي إليها. قال علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- والرّبيع إنّ مَن كان على سنّة النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- ينتهي إلى سدرة المنتهى. قال كعب في موضع آخر إنّ الشّجرة موجودة على رؤوس حَمَلة العرش وهي التي ينتهي إليها علم الخَلْق. قال الرّبيع بن أنس إنّ سدرة المنتهى تنتهي إليها أرواح الشّهداء.
وَصْف سِدرة المنتهى
وصف النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- سدرة المنتهى لأصحابه -رضي الله عنهم- فقال عنها: (ثمّ رفعت لي سدرة المنتهى فإذا نبقها مثل قُلْال هجر، وإذا ورقها مثل آذان الفيلة، قال: هذه سدرة المنتهى)،[٥] وجاء في حديث آخر: (ثمّ انطلق بي جبريلُ حتى نأتيَ سدرةَ المنتهى، فغشيها ألوانٌ لا أدري ما هي)،[٦] فسدرة المنتهى اسمها شجرة السِّدْر، ولكنّها تختلف عن السِّدر المعروف في الدنيا؛ إذْ إنّ ورقها ليس رقيقاً وخفيفاً بل هو كآذان الفيل، وثمرها ليس حبّاً صغيراً وإنّما هو كالقلال؛ أيّ بحجم جرّة كبيرة،غشيها من الملائكة عدداً كبيراً فكانوا كالطيور أو كالفراش، وهي كصفاء الذّهب وكضوء الشّمس ونور القمر، كما أنّها جميلة جدّاً بحيث لا يستطيع أحد وصف جمالها، ووصفها الله -تعالى- بأنّ عندها جنّة المأوى للمتّقين والصّالحين من عباده، وفي بعض الأحاديث التي وردت عن النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- جاء فيها أنّه ينبع من سدرة المنتهى أربعة أنهار؛ اثنان باطنان في الجنّة، واثنان ظاهران؛ وهما النيل والفرات، وورد في أحاديث أخرى أنّ الشّجرة موجودة في السّماء السّابعة، وقيل: في السّماء السادسة، ولا خلاف بين القولين إذْ يجوز أن يكون أصل الشّجرة وساقها في السّماء السّادسة، وتكون أوراقها وفروعها في السّماء السّابعة.[٢]
أمور متعلّقة بسِدرة المنتهى
اعتنى العلماء بتوضيح بعض الحقائق المتعلّقة بسِدرة المنتهى بناءً على النّصوص الشرعيّة من القرآن الكريم ومن السّنة النبويّة، وفيما يأتي بيان بعض المسائل المتعلّقة بسِدرة المنتهى:[٢] لم يتم نقل أي ذِكْر أو قول يخصّ شجرة السِّدر الموجودة على الأرض، فلم يرد أنّها مباركة أو أنّها تحمل خصائص مميزة عن غيرها من الشّجر، لكنّ سِدرة الأرض تشرّفت وتباركت بإقران اسمها باسم الشّجرة التي وصل إليها النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- في السّماوات العُلا. ذُكر في الحديث الشريف أنّ نهريّ الفرات والنّيل نهران ظاهران ينبعان من سِدرة المنتهى، وقد فسّر العلماء ذلك بعدّة أقوال؛ منها: قال النوويّ: إنّ الحديث يدلّ على أنّ أصل نهريّ الفرات والنّيل من الجنّة، وإنّهما ينبعان من سِدرة المنتهى فيسيران حيث أمر الله -تعالى- ثمّ ينزلان إلى الأرض ويسيران فيها. قال القرطبيّ: أُطلق على نهريّ الفرات والنّيل إنّهما من الجنّة تشبيهاً بأنهار الجنّة؛ لعذوبتهما وصفائهما وبركتهما. قال الألبانيّ: قد يكون أصل الفرات والنّيل من الجنّة كأصل الإنسان، والقول بذلك يُزيل التناقض بين القول بأنّهما من الجنّة، وبين ما يشاهده الإنسان أنّ نبعهما من الأرض، ولا بدّ للإنسان أن يؤمن بما ورد في الأحاديث النبويّة من أمور الغيب.