جماليات العجيب في الكتابات الصوفية رحلة ماء الموائد لابي سالم العياشي أنموذجا | خالد التوزاني
تكمن القيمة العلمية لهذا الكتاب في كونه يقارب موضوعا فريدا ويخوض صاحبه مغامرة علمية جريئة بمحاولته الكشف عن جماليات الكتابة الصوفية العجيبة، وتبيان طاقات الإبداع والتميز فيها، باعتبار العجيب في الكتابات الصوفية من حيثُ كونِهِ نصًّا سَرديا جميلا، من نصوص الإبداع المتميزة في الثقافة العربية الإسلامية والتي تحتاج لمزيد من البحوث والدراسات. وإذا كان “العجيب” مصطلحا نقديا تبنَّته بعض الدراسات الغربية والتي تأثر بها النقد العربي المعاصر في سياق التجريب وتوسيع أفق القراءة والتأويل، فإن هذا الكتاب قارب الموضوع باستحضار خصوصيات النص العربي، وخاصة التراثي منه، بمراعاة نسق التصوف وبنائه الداخلي، وبذلك فسح المجال للنص الصوفي ليقدم مؤهلاته في تعديل نظريات العجيب وإغنائها في سياق التبادل الثقافي العالمي والانفتاح الكوني على الثقافات الإنسانية، خاصة وأن موضوع العجيب لم تخل منه ثقافة من الثقافات، فهو متجذر في تاريخ الإنسانية، علما أن مؤلف الكتاب الدكتور خالد التوزاني قد فصَّل القول في نظريات العجيب وروافدها وما يتعلق بها من إشكالات وآفاق، وذلك في كتابه الموسوم بـ “أدب العجيب في الثقافتين العربية والغربية” الصادر عن منشورات دار كنوز المعرفة بالأردن.
ويأتي كتاب “جماليات العجيب في الكتابات الصوفية” ليسلط الضوء على نموذج تطبيقي ينتمي للأدب المغربي، حيث يتعلق الأمر بواحدة من أشهر الرحلات المغربية، وهي الرحلة العياشية المسماة “ماء الموائد” لصاحبها المتصوف العياشي والمشهور بأبي سالم (ت 1090هـ)، وذلك وعيا من المؤلف الدكتور خالد التوزاني بأهمية الأدب المغربي وضرورة تعميق البحث فيه، ترسيخا لقيم الوطنية وتأكيدا على ثوابت الهوية المغربية، في جانب من جوانب الإبداع المتميز لغة وفكرا ومنهجا، تجعل القارئ المغربي يشعر بالاعتزاز والفخر بتراثه، كما تجعل القارئ العربي يعيد النظر في أحكامه المسبقة حول الأدب المغربي وفتح آفاق البحث فيه والاستفادة منه، وفي هذا السياق جاء في تقديم السيد الأمين العام للرابطة المحمدية للعلماء العلامة الدكتور أحمد عبادي لهذا الإصدار قوله: ” إن هذه الدراسة العلمية باتخاذها نصوصا من أدب الرحلات المغربية مجالا للتطبيق، تكون قد سعت للإسهام في تعزيز البحث في الأدب المغربي وكشف جمالياته داخل جنس أدبي يحتاج لمزيد من الدراسات فيه، لتعميق النقاش حوله، ليس على مستوى النصوص المتداولة فيه فحسب، وإنما كذلك على مستويات التنقيب والتوثيق، والجمع والتحقيق، ثم الدراسة والتقييم”، ولعل هذه الأهمية التي يحظى بها الأدب المغربي راجعة لكونه يندرج ضمن الثروة اللامادية والرأسمال الرمزي للأمة المغربية والذي ينبغي استثماره في دعم جهود التنمية وتقوية الانتماء للوطن وتعزيز المكتسبات.
بذل المؤلف الدكتور خالد التوزاني مجهودا واضحا في ثنايا هذا الإصدار، حيث خضع المؤلَّف قبل نشره للتحكيم والمراجعة من قبل لجنة علمية اختارها مركز الإمام الجنيد للدراسات والبحوث الصوفية المتخصصة لتقييم الكتاب وفحصه وتتبع التصويبات التي أنجزها المؤلِّف، مما جعل كتاب “جماليات العجيب في الكتابات الصوفية” مؤسسا على منهجية علمية صارمة وتدقيق في محتواه ولغته، قبل أن يخرج في حلته المشرقة، وذلك على غرار جل إصدارات الرابطة المحمدية للعلماء التي تتميز بالدقة والجودة.
تأسيسا لمشروعية البحث في عجيب الأدب الصوفي، اجتهد المؤلف الدكتور خالد التوزاني في رصد جل الدراسات التي تناولت ظاهرة العجيب في الأدب العربي بشكل عام، والتي تمحور أغلبها حول الرواية والقصة القصيرة، واقتصرت الدراسات على تحليل النصوص المتداولة والشائعة؛ سواء في التراث العربي القديم أو في الإبداع الحديث والمعاصر، وعند تقييم حصيلة تلك الجهود، تبيَّن أن العجيب في الأدب الحديث حظي بنصيب وافر من مجمل الدراسات، نظرا لطابعي التجريب والحداثة اللذين غلبا على الإبداع المعاصر، وأثرا في حركة النقد الأدبي، ومن جملة ما يؤكد ذلك، أن أغلب الدراسات المنجزة حول العجيب، منشورة على شكل مقالات ضمن مجلات أدبية، أما دراسات العجيب في الأدب الصوفي فنادرة جدا، و ما هو موجود منها يُعد على رؤوس أصابع اليد الواحدة، ولم تتجاوز تلك الدراسات على ندرتها إحصاء ما يثير العجب، ووصفه، حيث أغفلت الحديث عن جمالياته، فضلا عن أن بحوث العجيب لم تكن في غالبيتها إلا انعكاسا لما جاءت به نظرية تودوروف حول الأدب العجائبي، ومن هنا تزداد أهمية كتاب “جماليات العجيب في الكتابات الصوفية” لمؤلفه الدكتور خالد التوزاني، وتزداد صعوبة الاختيار ومتعته في الآن نفسه، إذ لم يكن الاقتراب من العجيب سهلا أبدا، حيث يذكر المؤلف بعضا من الصعوبات التي رافقت إنجازه لهذا العمل، ومما جاء في مقدمة الكتاب حول الصعوبات والمنهج قول المؤلف:
“إن التعامل مع الكتابات الصوفية عموما، وأدب العجيب خصوصا، يفرز العديد من الصعوبات الكامنة في طبيعة الموضوع وخصوصيته من جهة، واختيار المنهج واللغة الواصفة والموصوفة معا والتصورات التي تتخللهما من جهة أخرى. ولعل أهم صعوبة واجهت المؤلف هي: وسم بعض النصوص الصوفية بـ”العجيب”، لأن الأمر لم يكن يخلو من مجازفة، وقد يحمل في طياته رؤية مسبقة، أو أحكاما قبلية، تعكس نظرة نوع معين من التلقي؛ الذي لم يستطع إخفاء تعجبه من هذه النصوص، فالقارئ، أي قارئ، يقف من النص موقفا خاصا، تحدد خصوصيته نوع ثقافته، فيصدق عجائب النص ويسلم بها، أو يلجأ إلى تأويلها تأويلات شتى، أو يرفضها، ومن هنا تختلف زوايا القراءة، مع أن النص قد يسهم في منح هذه الإمكانية أو تلك في القراءة بما يوفره من قدرة على التأثير والإقناع والسطو. ولتجاوز مأزق القراءة التصنيفية، عمد المؤلف إلى محاولة ضبط مفهوم العجيب، وتتبع دلالاته، ومناطق نفوذه وتأثيره، بغية التوصل لتحديد معايير في تصنيف النصوص أو انتقائها، تكون أقرب للموضوعية، وتنسجم مع قواعد البحث العلمي المتعارف عليها، وتحافظ في الآن ذاته على خصوصية الكتابة الصوفية ونسقها الإبداعي والمعرفي. وهكذا، حُدِّدَ مفهوم العجيب في: كل أمر مخالف للمألوف، باعث للحيرة والاستفهام. لكن هل يتعلق الأمر بمخالفة مألوف المتلقي/الباحث، أو مألوف المتصوف/ مبدع النص؟ لتجاوز هذا الإشكال كان التركيز في انتقاء النصوص، على ما أثار تعجّب المتصوف المبدع، مع عدم إغفال دهشة الباحث أمام بعض المتون، باعتباره متلقيا للنص “العجيب” متذوقا لجمالياته”.
أما المنهج المتبع في كتاب “جماليات العجيب في الكتابات الصوفية” فقد أفصح المؤلف عن هويته في مقدمة الكتاب، حيث يتعلق الأمر بــجمالية التلقي، قائلا: “يفضي الحديث عن صعوبات البحث، إلى حديث عن المنهج المعتمد في الكتاب، والذي فرضته طبيعة الموضوع، ونوع الصعوبات التي رافقت الإنجاز، فكان لابد من الحديث بلسان النص “العجيب”، لنَقْلِ رسالته كما أرادها، وبتعبير آخر: أن نمنح للنص إمكانية الكلام بصوت مرتفع، ولذلك كان التركيز على صنف من “العجيب” الذي أثار تعجب المتصوف الرحالة العياشي واستغرابه، علما أن ذلك لا يمنع من وجود عجيب آخر غير مصرح به، بل لا يعده أبو سالم العياشي أصلا من باب العجيب، فنقله للقارئ على أنه من الأمور العادية المسَلم بها والمتفق عليها زَمَنَهُ الذي هو زمن الكتابة، وبالطبع يختلف عن أزمنة القراءة. وبذلك، يمكن القول بأن العجيب في رحلة “ماء الموائد” عجيبان: عجيب العياشي وعجيب القارئ. ولأن هذا الأخير، أحيانا يكون مطالبا بتحقيق نوع من الحياد والموضوعية في قراءة النص، يصبح العجيب الأول، أي عجيب المتصوف هو المستهدف من الدراسة. ونظرا لكون التردد التفسيري الذي تخلقه نصوص العجيب، يجعل المتلقي في وضعية مأزق حرج؛ فلا هو يستطيع تفسير ما يحدث، ولا هو يُسَلِّمُ بما يقرأ، ولا يمكنه أيضا أن يرفض، فإن الخروج من هذا المأزق يكمن في التعامل مع “النص العجيب” من منظور أدبي، وأن يكون التحليل من داخل بنية التصوف؛ بما يوافق نسقه، وينسجم مع خصوصيته، أملا في تذوق بعض جماليات الكتابة العجيبة، والكشف عن طاقات الإبداع والتميز فيها، باعتبار العجيب في الكتابات الصوفية من حيث كونه نصا سرديا جميلا، من نصوص الإبداع المتميزة في الثقافة العربية الإسلامية.
Reviews
There are no reviews yet.