كشف الحال في وصف الخال | خليل بن إيبك الصفدي
يعالج هذا الكتاب موضوعاً لطيفاً ظريفاً، إذ طالما تغنى الشعراء بالخيلان، وأطالوا في وصفه، وما ملوا، ذلك لأن الشاعر حين يريد الغزل يبحث عن القيم الجمالية في المرأة، أو التي تشكل صفة نادرة تختص بها هذه المرأة من تلك، ووجد الشعراء غايتهم بوصف الخال والشامة، فرآها بعضهم قلبه المحترق، ورآها آخر جنان يحرس حديثة ورد.
وعلى الرغم من طرافة هذا الموضوع وأنسه إلا أنه لم يفرد مُؤلَّف ببحث هذا الموضوع قبل الصفدي، مع غزارة التأليف وتنوعه في العصور الأدبية السابقة أما المتأخرون فوجد فيهم عبد القادر سالك الحسيني حين ألف كتاب “أبدع ما قاله شاعر في الخال”. غير أن الكتّاب مع ذلك جمعوا في كتب أخبار العشاق، ومحاسن التشبيهات جملة من الأبيات الرائقة والمعاني اللائقة بالخال، فمن ذلك ابن الكتاني في كتاب “التشبيهات من أشعار الأندلس”. أما داود الأنطاكي في كتابه “تزيين الأسواق في أخبار العشاق” فقد أطال في إيراد المقاطع الفائقة عن ذكر الوجنة والخال. أما هذه المخطوطة التي بين أيدينا فقد أرادها الصفدي شفاء الغليل، فأودعها بحثاً نفيساً لا يزيد موضوعها إلا سمواً، ولا جيدها إلا فرائد، وجعله منتهى الطلب وغاية أهل الأدب في بابه، وجاء ذلك كله في مقدمتين ونتيجة.
ضمن المقدمة الأولى عدداً كبيراً من الأبحاث اللغوية عن الخال فبين معانيها الكثيرة بشرح وافٍ مستدلاَ إلى ما ذهب إليه بشواهد من الشعر القديم والكتب السابقة له، وذكر وزن الكلمة، وجمعه، وتصغيره، وختم حديثه عن الخال في اللغة بقصيدة لامية ضمت معاني الخال، وانتهت قافيتها بهذه الكلمة. وينتقل بعد الخال للشامة فيذكر وزن اللفظ، وجمعه، ويستشهد بحديث نبوي يورده كاملاً، ليدل على ما ذهب إليه، وبتعرض للشام وأجنادها ويستطرد في عرض أقسامها وطول كل منها، ويتحدث عن أصل الشامة في الاصطلاح، وأنه قيل عنها تفاؤلاً: “حسنة”، ويستطرد منها إلى ذكر عدد من الأضداد “الأعور والبصير”، و”المفازة والمهلكة” مفصلاً ذلك في نقاش نحوي بعيد عن موضوعنا الأساسي بين الأصمعي وابن الأعرابي. ثم يستشهد بعدد من الأبيات من العصور المختلفة على بعض الأضداد التي ذكرها. أما المقدمة الثانية فقد تفرعت الموضوعات المذكورة فيها في حقيقة الخال، وأنه الدم ينشق من بعض العروق، ويشف عنه الجلد في مكان احتباسه، ويتحدث عن علاقة لون الجلد بطبيعة المنطقة التي يعيش فيها، ودرجة حرارتها.
ويعلل سبب وجود بعض الخيلان مشعرة وغير مشعرة في بحث يطول عرضه ليصل من كل ما تقدم إلى أن هذا رأي الحكماء والعلماء، أما رأيه فهو أنها من فعل الله سبحانه وتعالى بكلمة كن فيكون، و ذهب عن ذهنه أن كل ما في الكون من أنظمة وقوانين هو من فعل الله، ولكن لا بد للعلم من أن يقول كلمته. وينتقل من العوامل الفيزيائية والكيميائية والإلهية في تكون الخال إلى رأي أرباب الفراسة في اختصاص الخيلان بمكان دون آخر، وأثر ذلك في طبيعة الإنسان فيورد نصاً من كتاب “دلائل الخيلان” لأبقراط، ومن الغريب أن مصادر الكتب المترجمة لأبقراط لم تورده كتاباً ولا فصلاً من كتاب له. وبعد ذلك يتحدث عن علم الجمال الخيلاني -إن صح التعبير- فيبدأ حديثه بعبارة “وأحسن الخيلان ما زان الوجه…”، ويعدد مواضع الخال في الوجه والنحر والصدر، يبين الفروق الجمالية في كل موضع، ومن خلال عدد من الأبيات يتعرض لموضوع السرقات الأدبية، أو باب التسلق على المعاني في حديث يطول عنه، ويبني عليها أحكاماً نقدية عجلة أحياناً، ومنه ينتقل إلى حديث عن تشبيهات الشعراء المعروفة للخال.
ويعرض بعد ذلك لعدد من الأعلام الذين أوردت كُتب سيرهم وأخبارهم وجود شامة أو خال لهم، ويبدأ بالنبي عليه الصلاة والسلام فيذكر حديث خاتم النبوة، واختلافات المحدثين في شكلها وحجمها لينتقل إلى الشعراء والخلفاء وجماعة من أهل العلم والأدب والرواية المنسوبين إلى ناحية من خراسان أو بسيرجان والمدعوين بالشاماتية ليصل منهم إلى النتيجة، وفيها أورد الكاتب عدداً من المقاطع الشعرية اللطيفة من رقيق النظم وبديعه، وجميل الغزل ووضيعه لعدد من شعراء عصره، أو ما قاربهم، وأوردها وفق راويها، ورتبها ترتيباً هجائياً مغفلاً حرف الذال لصعوبة القافية، وقلل في حرفي الضاد والظاء، في حين أكثر من الدال والراء.
ولا شك أن الصفدي شغله هذا الموضوع كثيراً حين رأى أن الشعراء لا يفتؤون يتناولون وصف الخال، لأنه محبب إلى قلب الحبيب والمحبوب. فلم يكتف بإيراد أشعار الوصف الخالية، بل تعداه إلى اللغة والفلسفة والطب وعلم الجمال ليكون كتاباً شاملاً للمعاني، واضح السبل، يجد فيه المستمتع بغيته، والطالب والعالم طريدته، لما حواه من متعة العقول والنفوس. ومهما عفا الزمان وطال وتبدلت القيم الجمالية في المجتمعات، وتحولت وأخذت أشكالاً مغايرة لأشكالها القديمة –وخصوصاً وصف الجمال الأنثوي- إلا أن الخال على مرّ العصور هو الشيء الوحيد الذي لم يدركه النسيان، فهو يكسب المرأة جمالاً ساحراً من أي عصر كانت.
وبالنظر للأهمية التي احتلها هذا الكتاب فقد أثبت “سهام الصلان” بتحقيقه فشرحت الكلمات التي وجدت أنه لمن الواجب شرحها، لصعوبتها أو لغموض معناها، ثم عرفت بالإعلام الواردة أسماؤهم في معرض الحديث، كما وعرفت بالبقاع والأماكن والكتب التي وردت، وفي الشعر أثبتت اختلاف الروايات، إن وجد، واختلاف نسبه، وأخيراً ضبطت الأشعار ووزنتها.
Reviews
There are no reviews yet.